فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله: {كمثل الذي استوقد نارًا} وقوله: {أو كصيب من السماء} قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا} إلى قوله: {أولئك هم الخاسرون}.
وأخرج عبد الغني الثقفي في تفسيره والواحدي عن ابن عباس قال: إن الله ذكر آلهة المشركين فقال: {وإن يسلبهم الذباب شيئًا} وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت فقالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد. أي شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا} الآية.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما أنزلت {يا أيها الناس ضرب مثل} قال المشركون: ما هذا من الأمثال فيضرب، أو ما يشبه هذا الأمثال. فأنزل الله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها} لم يرد البعوضة إنما أراد المثل.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: {البعوضة} أضعف ما خلق الله.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تغتروا بالله، فإن الله لو كان مغفلًا شيئًا لأغفل البعوضة، والذرة، والخردلة».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق} أي أن هذا المثل الحق {من ربهم} وأنه كلام الله ومن عنده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق} قال: يؤمن به المؤمنون، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويهديهم الله به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {يضل به كثيرًا} يعني المنافقين {ويهدي به كثيرًا} يعني المؤمنين {وما يضل به إلا الفاسقين} قال: هم المنافقون. وفي قوله: {الذين ينقضون عهد الله} فأقروا به، ثم كفروا فنقضوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} قال: فسقوا فأضلهم الله بفسقهم.
وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال: الحرورية هم {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} قال: إياكم ونقض هذا الميثاق. وكان يسميهم الفاسقين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} قال: إياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه، وأوعد فيه، وقدم فيه في آي من القرآن تقدمة، ونصيحة، وموعظة، وحجة. ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق. فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به.
وأخرج أحمد والبزار وابن حبان والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإِيمان عن أنس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له».
وأخرج الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت وأبي أمامة. مثله.
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر. مثله.
وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسن العهد من الإِيمان».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قال: الرحم والقرابة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ويفسدون في الأرض} قال: يعلمون فيها بالمعصية.
وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله تعالى: {أولئك هم الخاسرون} يقول هم أهل النار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإِسلام من اسم. مثل خاسر، ومسرف، وظالم، وفاسق، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإِسلام فإنما يعني به الذنب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الَّذيِنَ يَنْقُضُون} فيه أربعة وجوه:
أحدها: أَن يكون نعتًا ل {الفاسقين}.
والثاني: أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ.
والثالث: أَنَّه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره الجملة من قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}.
والرابع: أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الفاسقون.
والعهدُ في كلامهم على معانٍ:
منها الوصيَّةُ والضَّمان، والاكتفاء، والأمر.
و{مِنْ بَعْدِ} متعلِّق ب {ينقضون} و{من} لابتداء الغاية، وقيل: زائدة، وليس بشيء.
والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد، وأن يعود على اسم الله تعالى، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل.
والميثاقُ العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ، والجمع: المواثيق على الأصل؛ لن أصل مِيِثَاق: مِوْثَاق، صارت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ كالميلاد والمِيعَاد بمعنى الولادة، والوعد؛ وقال ابن عطية: هو اسْمٌ في وضع المصدر؛ كقوله: الوافر:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ** وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةِ الرِّتَاعَا

أي: إِعْطَائِكَ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ، وجمعه مَوَاثِيق، ومَيَاثِق، أيضًا، ومَيَاثيق؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ: الطويل:
حِمًى لا يَحِلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا ** وَلاَ نَسْأَلُ الَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ

والمَوْثِق: المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ} [المائدة: 7].
قوله: {وَيَقْطَعُونَ} عطف على {يَنْقُضُونَ} فهي صلة أيضًا، و{ما} موصولة، و{أَمَرَ الله به} صلتها وعائدها.
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب {يَقْطَعُونَ} والقطع معروف، والمصدر- في الرّحم- القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وقُطَعَةٌ، مثل هُمَزَة، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعًا، وقطعت النهر قُطُوعًا، وقَطَعَت الطير قُطُوعًا، وقُطَاعًا، وقِطَاعًا إذ خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ.
وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ: إذا قلت مياههم، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار.
قوله: {مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} {ما} في موضع نصب ب {يقطعون} و{أَنْ يُوصلَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الجر على البدل من الضمير في {بِهِ} أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ؛ كقول امرئ القيس: الطويل:
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ** فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ

أي: أمِنْ نَأْيِهَا.
والنصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من {مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ} بدل اشتمال.
والثاني: أنه مفعول من أجله، فقدره المَهْدوِيّ: كراهية أن يوصل، وقدره غيره: ألا يوصل.
والرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هو أن يوصل، وهذا بعيدًا جدًا، وإن كان أبو البقاء ذكره.
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل: صلة الأرْحَام، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة، وعلى هذا فالآية خاصة.
وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا، ولم يعملوا.
وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب بعضهم.
وقيل: الإشارة إلى دين الله، وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله- تعالى- أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين، فانقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفار.
وقيل: إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن، وهم كانوا مشتغلين بذلك.
و{يُفْسِدُونَ} عطف على الصّلة أيضًا، و{في الأَرْضِ} متعلق به.
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم.
وقيل: يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، ثم إنه- تعالى- أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال: {أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} كقوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5]، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر {الذِينَ يَنْقُضُونَ} إذا جعل مبتدأ.
وإن لم يجعل مبتدأ، فهي مستأنفة، فلا محل لها حينئذ، و{هم} زائدة، ويجوز أن يكون {هم} مبتدأ ثان، و{الخَاسِرُونَ} خبره، والثاني وخبره خبر الأول.
والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز.
والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره؛ قال جرير: الرجز:
إِنَّ سَلِيطًا فِي الخَسَارِ إِنَّهْ ** أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ

يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
قال الجوهري: وخسرت الشيء بالفتح- وأخسرته نقصته.
والخَسَار والخَسَارَة والخَيْسَرَى: الضَّلال والهلاك.
فقيل للهالك: خاسر؛ لأنه خسر نفسه، وأهله يوم القيامة، ومنع منزله من الجَنَّة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (28):

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما دعا سبحانه إلى التوحيد ودل عليه وأنذر من أعرض وبشر من أقبل وذكر حال الفريقين في قبول الأدلة التي زبدتها الأمثال وإبائها التفت إلى تبكيت المدبر لعله يستبصر، واستمر سبحانه في دلائل التوحيد حتى قامت قيام الأعلام ونفذت نفوذ السهام حتى تخللت صميم العظام لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر القمر في أسلوب مشيرًا إلى البعث منبه على التخلص من الخسارة، وما أبدع افتتاح ذلك عقب {الخاسرين} بقوله على طريق التفات المغضب المستعطف المعجب! {كيف} وقال الحرالي: لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف فضربت الأمثال فاستدرك وآمن وتمادى متماد على كفره صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى وأجري على لسان لؤم وإنكار، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر، وجاء بلفظ كيف لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة فإن كيف كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس، فكأنه يقال لهم بمدرك: أي حاسة تماديتم على الكفر بالله؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في {تكفرون} انتهى.
وقال: {بالله} أي مع ظهور عظمته وعلوه، والإنكار الموجب لنفي المنكر، كما في قولك: أتطير بغير جناح، يفيد أنه كان ينبغي أن يكون الكفر في حيز الممتنع لما على بطلانه وصحة التوحيد من الأدلة التي تفوت الحصر، وإنكار حاله إنكار لوجوده على طريق البرهان، لأنه إذا امتنع أن يوجد في حال من الأحوال امتنع وجوده مطلقًا.
قال الحرالي: وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم {الله} لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادرًا ولا تاليًا حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال.
ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غايات من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما- انتهى.
{وكنتم} أي والحال أنكم تعلمون أنكم كنتم {أمواتًا} بل مواتًا ترابًا ثم نطفًا.
قال الحرالي: من الموت وهو حال خفاء وغيب يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة- انتهى.
وإطلاق الموت على ما لم تحله حياة مجاز، وسرّ التعبير به التنبيه على أنه أكثر ما تكون الإعادة التي ينكرونها مثل الابتداء، فلا وجه أصلًا لإنكارها مع الاعتراف بالابتداء.
فكيف والإعادة دونه {فأحياكم} فصرتم ذوي حس وبطش وعقل.
قال الحرالي: وجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت الذي قبل حياة الولادة، والحياء تكامل في ذات ما أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه إلى حياة ما يدب بحركته وحسه إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه إلى ما وراء ذلك من التكامل- انتهى.
{ثم يميتكم} بعد مد الأعمار والتقليب في الأطوار فإذا أنتم أجساد كالفخار كأنه لم تحل بها حياة ساعة قط، وبدلتم بعد الأنس بكم الوحشة، وإثر محبة القرب منكم النفرة؛ وتمثيل الموت بما نعهده أن طلب الملك كما أنه يحصل به من الروع ما يكاد يتلف وربما أتلف كان طلب ملك الملوك موجبًا للموت.
قال الحرالي: وهذه الأحوال الثلاثة أي الموت المعبر به عن العدم ثم الحياة ثم الموت معروفة لهم لا يمكنهم إنكارها، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله، كما قال تعالى: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} [يس: 81] ولَدُن ذلك من العلم أن الموت والحياة مزدوجان متضايفان، وإذا استوفى الموت الأول إحياؤه فلابد من استيفاء الموت الثاني إحياؤه أيضًا، لأنه لولا استقبال الحياة لما كان موتًا بل بُطلًا وفقدًا واضمحلالًا، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور، والحياة نهاية ثابتة، والموت مبدأ غيب زائل، فجنس الموت كله متقض ونهاية، والحياة ثابتة دائمة؛ ولذلك ورد ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أن الموت يُذبح، إعلام بانقضاء جنسه وثبات الحياة، ولذلك قدم في الذكر وأعقب بالحياة حيث استغرقتهما كلمة أل في قوله: {خلق الموت والحياة} [الملك: 2] وثبت الخطاب على إقرار الحياة والكمال، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: «نعيم الجنة لا آخر له» فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما اقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية بعد ميتة الدنيا- انتهى.
ولما كان على البعث والحشر من الأدلة ما جعلهما كالمحسوسين عدهما في حيز المعلوم لهم كالإحياء الأول والموت فقال: {ثم يحييكم} فينشركم بعد طيكم ويبعثكم بعد حبسكم في البرزخ، فتكونون كما كنتم أول مرة ذوي قدرة على الانتشار بتلك القدرة التي ابتدأكم بها وأماتكم، وهذا لا ينفي أن يكون لهم في البرزخ إحساس بدون هذه الهيئة الكاملة، {ثم إليه ترجعون} فيحشركم بعد طول الوقوف للجزاء من الثواب والعقاب؛ وفي هذا كما قال الحرالي: إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله سبحانه بداعي العلم في الدنيا فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهرًا حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله، وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله فيرجعون قسرًا وسوقًا فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم، كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281] وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم ولسان النكير عليهم، ولذلك كانت آية: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] آخر آية أنزلت في القرآن، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء؛ والرجع عود الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها- انتهى. اهـ.